يتمسك كثير من محللي المنكب البرزخي، من ذوي الخلفية الإسلامية، وجيرانهم فكريا، بمنطق التآمر، والبحث عن "المعلومات" ويتجاهلون المعطيات الماثلة، الكاشفة لحقائق الأشياء والأشخاص والأحداث.
دور المعلومات في الحالات التي يبحث عنها هؤلاء غالبا يكون دورا مضللا؛ فما ينشر على أنه معلومات، أو يقدم في مجالس خاصة، في أغلب الأحيان يكون آراء الرواة، أو الجهات التي يمثلون.
لكن التمسك بالمنطق التآمري يحل الكثير من الإشكالات؛ فهو يريح من قراءة المعطيات والبحث عنها، ومجابهة الوقائع، خاصة إذا كانت لا تسير في مساق تمنيات محللي الرغائب.
المراقب الحصيف لا ينشغل بما وظيفته تضليله عما وظيفته إرشاده. المعطيات هي دخان نار المعلومات الصحيحة؛ فما لم تجد معطى واضحا على معلومة فاعلم أنه مضللة.
تحتاج قراءة المعطيات منطقا، وترتيبا وتصفيفا، حتى نستطيع أن ننتج منها صورة قريبة من الواقع، وهذا جهد يكسل عنه أغلب المعلقين، وحتى لو لم يكن الكسل هو الحاجز فإن الملكة ليست متوفرة لكل الناس... احتاجت التقنية عقودا من الأبحاث والتطوير لتنتج كاميرات ترى من ثلاثة أبعاد وما زالت كاميرات غالية التكاليف، صعبة الاستعمال... وما زال الطريق شاقا، طويلا لتطوير رؤيتنا للأشياء..
ومن استسلم لمنطق التآمر كفاه كل هذه المؤونة، فهو يضع الأمور في مساق احتمال واحد.. ويكون الجهد خفيفا لتأول هذا الفعل، أو ذاك أو القفز على هذا المعطى أو ذاك.
مشكلة نظرية المؤامرة أنها لا تصمد إلى الأبد. حين اختلف الشيخ حسن الترابي رحمه الله والرئيس عمر حسن البشير، وانقسمت الحركة الإسلامية في السودان، تشبث أغلب هؤلاء لسنوات بأن الموضوع مسرحية مدبرة، سالت الدماء بين الفريقين، وما زال هناك من معلقي الإسلاميين من يزعم أن الأمر مجرد مسرحية، وعزل البشير أمس على يد زمرة من الضباط السودانيين، فاندفع هؤلاء نفسهم ليعلنوا أن الأمر مجرد مسرحية خطط لها البشير ودبرها، ورتبها مع سجانيه!
أتصور أحدهم في عرصات الحشر وقد وضع يده على منكب الشيخ الترابي، رحمه الله، وهو يستحلفه بالله هل كان ما جرى في الدار الفانية بينه والبشير مجرد مسرحية!!
انفصل الرئيسان رجب طيب أردوغان وعبد الله غل عن الأب المؤسس نجم الدين أربكان رحمه الله وتعرقت جباه معلقينا وهم يحصون الأدلة على أن الأمر مجرد ترتيب بين الرجلين.. ورأينا الطرفين وهما يديران معركة الانتخابات، وفي مرتكزات خطاب كل منهما نقض أطروحة الآخر، وظللنا نردد نفس العبارة.
في الجزائر تكررت نفس الحكاية مع أبي جرة سلطاني، وعبد العزيز مناصرة، ويعتقد بعض ذوي الرأي والخبرة عندنا أن "التوحيد والإصلاح" و"العدل والإحسان" تتصافحان من وراء الستار..
كل هذا الحديث السابق إنما كنت أتحدث عن انسحابات تواصل؛ إنكم تنزفون فأفيقوا.
ليس من منطق السياسة ولا من منطق الاستراتيجيا أن يتخلى الناس عن أوراق قوتهم وقت اللعب! "حد ضامن ما إفيل الفالات"، إن قوة أي حزب في تماسكه، وقدرته على إقناع القاعدة هي فرع عن قدرته على إقناع القيادة.. فما لم يستطع الحزب الظهور بمظهر المتماسك قياديا فهر فلن يستطيع تعبئة قواعده للتصويت لخياراته.
إن الذين يتحدثون عن مؤامرة يديرها الحزب لاختراق الأغلبية يضعون تواصل في مثلث عار أضلاعه: خيانة ولد بوبكر، وعدم الإخلاص في دعمه. الاستهزاء بالرأي العام، وازدواجية الخطاب والممارسة. والاستخفاف بعقول النظام، والمرشح محمد ولد الغزواني.
دافع الإشفاق الذي يحرك كثيرا من الطيبين يشكل نوعا من التبرير السخيف لسياسة التغاضي عن الواقع، ومحاولة إصلاح اختلالاته.. والذين يفعلون ذلك بدافع الوشاية يفتقدون حصافة المخبرين المحترفين، والذين يصدقون مثل هذه الأطاريح مغفلون في أفضل حالاتهم.. والكل عن الواقع عميان؛ فريقان بسبب التعامي، وفريق بسبب العمى.
رؤية الواقع بعين البصر، مقدمة لتحليله بعين البصيرة، والتحليل قبل التفسير قفز، والتفسير بدون فهم مزلة.. فارحموا شهر الصيام، إن قررتم ألا ترحموا حزبكم.
ديدي لحبيب