منذ أن تحولت السياسة في بلادنا إلى إدارة للمصالح بدلا من أن تظل شأنا عاما ، أصبحت الأخلاق عبئا ، و الاستقلالية تهورا ، و الوفاء نذالة في أعين الساسة الجدد .
في عالم تتسيده آليات الضبط الناعم ، لم تعد الأنظمة بحاجة إلى عنفها الكلاسيكي ، بل يكفي أن تشوه السمعة ، أن تحاصر بالصمت ، أن تشهر التهم الجاهزة ضد كل من لا ينخرط في الموالاة الكاملة .
في هذا السياق يصبح النزيه خطرا ، لا لأنه يهدد النظام ، بل لأنه يعريه . يصبح صوت الحق نشازا ، لأنه يوقظ الضمير في زمن التنويم .
و هنا تبرز أهمية إعادة الاعتبار للفعل السياسي كالتزام وجودي ، لا كممارسة نفعية .
إن محنة الوفاء السياسي ، من خلال حالة الوزير السابق سيدنا عالي ولد محمد خونه ، و التي نقاربها لا كقضية فردية ، بل كمثال على هشاشة البنى السياسية أمام ثبات الضمير .
شهادة النائب بيرام الداه اعبيد تشكّل في هذا السياق دعوة نادرة لإحياء المعنى المهمل :
أن يكون المرء صالحا ، حتى و هو في قلب نظام لا يتقن إلا معاقبة الصلاح .
في لحظات الانهيار الأخلاقي هذه ، حين تتسيد الانتهازية و يتحول الولاء لرمز السلطة إلى مسوغ للتبعية العمياء ، يصبح التمسك بالمبدأ فعلا راديكاليا .
لا يعود الوفاء مجاملة أخلاقية ، بل يتحول إلى تحد للنظام القائم ، إلى فعل مقاومة ناعم في وجه طغيان الزبونية و سيادة منطق ( إما أن تكون معنا، أو فأنت ضدنا ) الوزير السابق سيدنا عالي ولد محمد خونه ، كما تبرز سيرته السياسية في شهادات نادرة ، لم يكن يوما معارضا تقليديا و لا منتميا إلى المعارضة الصاخبة ، بل كان جزءا من منظومة الحكم .
لكنه اختار أن يمارس موقعه من داخل حدود الأخلاق السياسية ، و هو ما جعله يصنف اليوم في خانة المغضوب عليهم ، بل و يتهم بما لا يمكن لعاقل أن يربطه بشخصيته أو سيرته - الإرهاب ! هذا التحول العنيف من الولاء إلى الإدانة يذكر بمقولة ( hanna ) حين تحدثت عن - الرداءة الأخلاقية لأنظمة الخوف - قائلة ( في أزمنة الاستبداد ، ليس السلوك الشرير وحده هو ما يكاف ، بل يعاقب حتى الصالح لأنه لا ينخرط في الشر ) .
إن ما يتعرض له هذا الرجل لا يمكن اختزاله في خصومة سياسية أو تصفية حسابات مؤقتة ، بل هو انعكاس لأزمة بنيوية يعيشها النظام السياسي في موريتانيا .
إنها أزمة تعبير عن رفض وجود ( الاستثناء الأخلاقي ) داخل المنظومة ككل ، لا مكان هناك لمن يضع ميزان القيم فوق ميزان المصلحة و من يرفض أن يكون أداة في هندسة الخلافة السياسية أو التواطؤ مع تطويع المؤسسات لصالح مشروع التوريث .
و في هذا الإطار ، ترتدي شهادة الرئيس بيرام الداه اعبيد طابعا وجوديا ، لا سياسيا فحسب .
حين يثني على خصمه السياسي ، لا يفعل ذلك من باب المجاملة أو الاصطفاف الظرفي ، بل من موقع الدفاع عن معنى أوسع هو أن هناك في السياسة من لا يزالون يحتفظون بضمير .
كما قال - Michel foco - ( السلطة لا تحتاج إلى أن تظهر قسوتها إلا عندما تواجه من لا يريد أن يكون موضوعا خاضعا ) إن الرئيس بيرام يدافع ، لا عن رجل فقط ، بل عن قيمة أصبحت مهددة بالانقراض ( الوفاء ) و هذا الوفاء كما جسده ولد محمد خونه ليس ولاء أعمى ، بل التزام بمسافة أخلاقية تجاه الجميع .
و هو ما يتناقض تماما مع منطق السلطة الذي لا يعترف بالحياد إلا كخيانة .
في النظم التي تضع الأمن السياسي فوق الكرامة الإنسانية ، يصبح كل من يتردد في الانبطاح ( مشروع متهم ) و كل من حافظ على حياده في لحظة الاستقطاب القصوى يعتبر خائنا .
و قد كان هذا بالضبط ما دفع الفيلسوف الأرجنتيني ( laklo ) للقول ( الحياد في السياسة الراديكالية ليس موقفا سلبيا ، بل هو خيار وجودي محفوف بالخطر )
إن قصة الوزير السابق ليست قضية جنائية ، بل علامة على هشاشة المجال السياسي حين تتحكم فيه آليات العقوبة و التخويف بدل الحوار و الاعتراف .
بل هي نموذج دراسي على ما يسميه ( بيير bordyo ) بـ ( العنف الرمزي ) أي حين تستخدم أدوات الدولة لا لقمع الجسد فقط ، بل لتحطيم السيرة و المكانة و الرمز .
و هنا تكمن دلالة القضية أبعد من شخصها . إنها ليست فقط قصة رجل يتعرض للظلم ، بل قصة ( نزاهة في مهب الدولة العميقة ) و قصة مجتمع سياسي لم يعد يحتمل الاختلاف داخل الولاء ، و لا الاستقلالية داخل القرب من السلطة .
و قد آن الأوان لتأمل هذه المأساة لا بصفتها حدثا سياسيا ، بل باعتبارها سؤالا وجوديا حول مستقبل الفعل السياسي ذاته في بلاد تدار بالعقاب لا بالمشاركة ، و بالإقصاء لا بالتعدد .
مكي عبد الله عضو و ناشط في منظمة إيرا الحقوقية و عضو في حزب الرك
أنواذيب بتاريخ : 29/05/2025